الطب الشرعي: أداة العدالة الصامتة
المقدمة
عندما تُغلق أبواب قاعة المحكمة، ويُطلب من القاضي إصدار حكمه في جريمة معقّدة، قد يكون الصوت الصامت الذي يغيّر مجرى القضايا هو تقرير طبي شرعي دقيق. في عالم مليء بالانتهاكات، والجرائم الغامضة، والتعقيدات القانونية، يقف الطب الشرعي في قلب الحقيقة، حاملًا أدواته العلمية وتحليلاته الدقيقة. لكن، ما هو الدور الحقيقي للطب الشرعي؟ وما التحديات التي تواجهه، خاصة في العالم العربي؟ وكيف يمكن إصلاح هذا القطاع الحيوي ليخدم العدالة كما يجب؟
الطب الشرعي: أكثر من تشريح جثث
الطب الشرعي ليس مجرد فحص لما بعد الموت؛ إنه علم يبحث في الحقيقة باستخدام أدوات علمية دقيقة. يُعتمد عليه لكشف أسباب الوفاة، توثيق الإصابات، تحليل الآثار الجينية والسموم، وتقديم أدلة مادية تُحدث فارقًا جوهريًا في مسار التحقيقات.
يُستخدم الطب الشرعي لتحديد زمن الوفاة عبر ملاحظة تغيّرات في الجسم مثل تصلب العضلات وتجمع الدم، كما يُستخدم لتقييم الجروح وتحديد نوع السلاح المستخدم، وهو ما يكون حاسمًا في قضايا القتل أو العنف.
دوره في حقوق الإنسان: عندما يتكلم الجسد بدلًا من الضحية
يُعتبر الطب الشرعي أداة أساسية في التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، خاصةً في حالات التعذيب والاختفاء القسري. فعندما يُحرم الضحايا من صوتهم، يُصبح جسدهم هو الدليل. تقارير الطب الشرعي الموثقة تُستخدم كأدلة قوية في المحاكمات الوطنية والدولية لإثبات الانتهاكات.
الطب الشرعي في المغرب: واقع يحتاج إلى إصلاح
رغم الأهمية البالغة للطب الشرعي، إلا أن الوضع في المغرب يُظهر تحديات كبيرة:
- نقص الكفاءات والتكوين: كثير من الخبراء المعتمدين يفتقرون للتدريب المتخصص.
- ضعف البنية التحتية: مستودعات الأموات غير مؤهلة، والمعدات غالبًا ما تكون قديمة.
- شهادات طبية غير دقيقة: ما يفتح المجال للفساد أو المحاباة أو حتى التزوير.
- تعويضات زهيدة: الأطباء الشرعيون يتقاضون مبالغ لا تعكس حجم العمل أو مسؤوليته.
هذه التحديات تقوّض العدالة، وتضعف الثقة في الجهاز القضائي.
نماذج دولية ملهمة للإصلاح
تتضمن بعض التجارب العالمية نماذج يُحتذى بها:
- فرنسا: أصدرت إطارًا قانونيًا شاملًا منذ 2010 ينظم الطب الشرعي.
- البرتغال والسويد: أنشأتا معاهد وطنية مستقلة للطب الشرعي.
- الجزائر: دمجت الطب الشرعي داخل المستشفيات الجامعية لربطه بالتدريب الأكاديمي.
التوصيات تدعو إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلة، وتحسين تكوين الأطباء، وربط الطب الشرعي بالمستشفيات العمومية مع ضمان استقلاليته المالية والإدارية.
البصمة الوراثية: سلاح مزدوج في يد العدالة
أحدثت تقنية DNA ثورة في التحقيقات الجنائية. تُستخدم لتحديد الهوية، إثبات أو نفي النسب، ربط المشتبه بهم بمسرح الجريمة. ومع ذلك، فإن دراسات حديثة أظهرت وجود نسبة أخطاء غير ضئيلة، مما يؤكد أهمية وجود معايير صارمة في تحليل العينات وحفظها.
الاعتبارات الأخلاقية والقانونية: الجسد ليس ملكًا لأحد
من أهم النقاشات المثارة هي حرمة الجسد، خاصةً في حالات تشريح جثث ضحايا التعذيب أو المعاملة القاسية. هل يجوز كشف جثة انتهكت حقوق صاحبها في حياته؟ هناك من يرى أن التشريح ضرورة لكشف الحقيقة، شرط أن يتم وفقًا لضوابط صارمة تحترم كرامة الميت، وهو ما تدعمه مبادئ الأمم المتحدة.
الطريق نحو عدالة أكثر شفافية
إصلاح الطب الشرعي ليس مجرد مسألة طبية، بل هو ضرورة قضائية وإنسانية. فبدون تقارير دقيقة، ممارسين مؤهلين، وتشريعات عادلة، قد تُغلق قضايا ظلمًا، أو يُدان أبرياء، أو يُفلت مجرمون من العقاب.